سورة النساء - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)}
اعلم أنه تعالى لما ذكر ثواب من أقدم على الجهاد أتبعه بعقاب من قعد عنه ورضي بالسكون في دار الكفر، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الفرّاء: إن شئت جعلت {توفاهم} ماضياً ولم تضم تاء مع التاء، مثل قوله: {إِنَّ البقر تشابه عَلَيْنَا} [البقرة: 70] وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية إخباراً عن حال أقوام معينين انقرضوا ومضوا، وإن شئت جعلته مستقبلاً، والتقدير: إن الذين تتوفاهم الملائكة، وعلى هذا التقدير تكون الآية عامة في حق كل من كان بهذه الصفة.
المسألة الثانية: في هذا التوفي قولان: الأول: وهو قول الجمهور معناه تقبض أرواحهم عند الموت.
فإن قيل: فعلى هذا القول كيف الجمع بينه وبين قوله تعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا} [الزمر: 42] {الذى خَلَقَ الموت والحياة} [الملك: 2] {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28] وبين قوله: {قُلْ يتوفاكم مَّلَكُ الموت الذي وُكّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11].
قلنا: خالق الموت هو الله تعالى، والرئيس المفوض إليه هذا العمل هو ملك الموت وسائر الملائكة أعوانه.
القول الثاني: {توفاهم الملائكة} يعني يحشرونهم إلى النار، وهو قول الحسن.
المسألة الثالثة: في خبر (إن) وجوه:
الأول: أنه هو قوله: قالوا لهم فيم كنتم، فحذف لهم لدلالة الكلام عليه.
الثاني: أن الخبر هو قوله: {فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} فيكون (قالوا لهم) في موضع {ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ}، لأنه نكرة.
الثالث: أن الخبر محذوف وهو هلكوا، ثم فسّر الهلاك بقوله: {قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ} أما قوله تعالى: {ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قوله: {ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ} في محل النصب على الحال، والمعنى تتوفاهم الملائكة في حال ظلمهم أنفسهم، وهو وإن أضيف إلى المعرفة إلا أنه نكرة في الحقيقة، لأن المعنى على الانفصال، كأنه قيل ظالمين أنفسهم، إلا أنهم حذفوا النون طلباً للخفة، واسم الفاعل سواء أُريد به الحال أو الاستقبال فقد يكون مفصولاً في المعنى وإن كان موصولاً في اللفظ، وهو كقوله تعالى: {هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] {هَدْياً بالغ الكعبة} [المائدة: 95] {ثَانِىَ عِطْفِهِ} [الحج: 9] فالإضافة في هذه المواضع كلها لفظية لا معنوية.
المسألة الثانية: الظلم قد يراد به الكفر قال تعالى: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] وقد يراد به المعصية {فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ} [فاطر: 32] وفي المراد بالظلم في هذه قولان: الأول: أن المراد الذين أسلموا في دار الكفر وبقوا هناك، ولم يهاجروا إلى دار الإسلام.
الثاني: أنها نزلت في قوم من المنافقين كانوا يظهرون الإيمان للمؤمنين خوفاً، فإذا رجعوا إلى قومهم أظهروا لهم الكفر ولم يهاجروا إلى المدينة، فبيّن الله تعالى بهذه الآية أنهم ظالمون لأنفسهم بنفاقهم وكفرهم وتركهم الهجرة.
وأما قوله تعالى: {قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ} ففيه وجوه:
أحدها: فيم كنتم من أمر دينكم.
وثانيها: فيم كنتم في حرب محمد أو في حرب أعدائه.
وثالثها: لم تركتم الجهاد ولم رضيتم بالسكون في ديار الكفار؟
ثم قال تعالى: {قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض} جواباً عن قولهم: {فِيمَ كُنتُمْ} وكان حق الجواب أن يقولوا: كنا في كذا، أو لم نكن في شيء.
وجوابه: أن معنى {فِيمَ كُنتُمْ} التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا، فقالوا: كنا مستضعفين اعتذاراً عما وبخوا به، واعتلالاً بأنهم ما كانوا قادرين على المهاجرة، ثم إن الملائكة لم يقبلوا منهم هذا العذر بل ردوه عليهم فقالوا: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسعة فتهاجروا فِيهَا} أرادوا أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم، فبقيتم بين الكفار لا للعجز عن مفارقتهم، بل مع القدرة على هذه المفارقة، فلا جرم ذكر الله تعالى وعيدهم فقال: {فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً}.
ثم استثنى تعالى فقال: {إِلاَّ المستضعفين مِنَ الرجال والنساء والولدان لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} ونظيره قول الشاعر:
ولقد أمر على اللئيم يسبني ***
ويجوز أن يكون {لاَ يَسْتَطِيعُونَ} في موضع الحال، والمعنى لا يقدرون على حيلة ولا نفقة، أو كان بهم مرض، أو كانوا تحت قهر قاهر يمنعهم من تلك المهاجرة.
ثم قال: {وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} أي لا يعرفون الطريق ولا يجدون من يدلهم على الطريق.
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بهذه الآية إلى مسلمي مكة فقال جندب بن ضمرة لبنيه: احملوني فإني لسيت من المستضعفين، ولا أني لا أهتدي الطريق، والله لا أبيت الليلة بمكة، فحملوه على سرير متوجهاً إلى المدينة، وكان شيخاً كبيراً، فمات في الطريق.
فإن قيل: كيف أدخل الولدان في جملة المستثنين من أهل الوعيد، فإن الاستثناء إنما يحسن لو كانوا مستحقين للوعيد على بعض الوجوه؟
قلنا: سقوط الوعيد إذا كان بسبب العحز، والعجز تارة يحصل بسبب عدم الأهبة وتارة بسبب الصبا، فلا جرم حسن هذا إذا أُريد بالولدان الأطفال، ولا يجوز أن يراد المراهقون منهم الذين كملت عقولهم لتوجه التكليف عليهم فيما بينهم وبين الله تعالى، وإن أُريد العبيد والإماء البالغون فلا سؤال.
ثم قال تعالى: {فَأُوْلَئِكَ عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ} وفيه سؤال، وهو أن القوم لما كانوا عاجزين عن الهجرة، والعاجز عن الشيء غير مكلف به، وإذا لم يكن مكلفاً به لم يكن عليه في تركه عقوبة، فلم قال: {عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ} والعفو لا يتصور إلا مع الذنب، وأيضاً {عَسَى} كلمة الإطماع، وهذا يقتضي عدم القطع بحصول العفو في حقهم.
والجواب عن الأول: أن المستضعف قد يكون قادراً على ذلك الشيء مع ضرب من المشقة وتمييز الضعف الذي يحصل عنده الرخصة عن الحد الذي لا يحصل عنده الرخصة شاق ومشتبه، فربما ظن الإنسان بنفسه أنه عاجز عن المهاجرة ولا يكون كذلك، ولا سيما في الهجرة عن الوطن فإنها شاقة على النفس، وبسبب شدة النفرة قد يظن الإنسان كونه عاجزاً مع أنه لا يكون كذلك، ولا سيما في الهجرة عن الوطن فإنها شاقة على النفس، وبسبب شدة النفرة قد يظن الإنسان كونه عاجزاً مع أنه لا يكون كذلك، فلهذا المعنى كانت الحاجة إلى العفو شديدة في هذا المقام.
وأما السؤال الثاني: وهو قوله: ما الفائدة في ذكر لفظة {عسى} ههنا؟ فنقول: الفائدة فيها الدلالة على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه، حتى أن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول: عسى الله أن يعفو عني، فكيف الحال في غيره. هذاهو الذي ذكره صاحب الكشاف في الجواب عن هذا السؤال، إلا أن الأولى أن يكون الجواب ما قدمناه، وهو أن الإنسان لشدة نفرته عن مفارقة الوطن ربما ظن نفسه عاجزاً عنها مع أنه لا يكون كذلك في الحقيقة، فلهذا المعنى ذكر العفو بكلمة {عَسَى} لا بالكلمة الدالة على القطع.
ثم قال تعالى: {وَكَانَ الله عَفُوّاً غَفُوراً} ذكر الزجاج في {كَانَ} ثلاثة أوجه: الأول: كان قبل أن خلق الخلق موصوفاً بهذه الصفة.
الثاني: أنه قال: {كَانَ} مع أن جميع العباد بهذه الصفة والمقصود بيان أن هذه عادة الله تعالى أجراها في حق خلقه.
الثالث: لو قال: إنه تعالى عفو غفور كان هذا إخباراً عن كونه كذلك فقط، ولما قال إنه كان كذلك كان هذا إخباراً وقع مخبره على وفقه فكان ذلك أدل على كونه صدقاً وحقاً ومبرأ عن الخلف والكذب.
واحتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى قد يعفو عن الذنب قبل التوبة فإنه لو لم يحصل هاهنا شيء من الذنب لامتنع حصول العفو والمغفرة فيه، فلما أخبر بالعفو والمغفرة دلّ على حصول الذنب، ثم إنه تعالى وعد بالعفو مطلقاً غير مقيد بحال التوبة فيدل على ما ذكرناه.


{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)}
واعلم أن ذلك المانع أمران: الأول: أن يكون له في وطنه نوع راحة ورفاهية، فيقول لو فارقت الوطن وقعت في الشدة والمشقة وضيق العيش، فأجاب الله عنه بقوله: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} يقال: راغمت الرجل إذا فعلت ما يكرهه ذلك الرجل، واشتقاقه من الرغام وهو التراب، فإنهم يقولون: رغم أنفه، يريدون به أنه وصل إليه شيء يكرهه، وذلك لأن الأنف عضو في غاية العزة والتراب في غاية الذلة، فجعلوا قولهم: رغم أنفه كناية عن الذل.
إذا عرفت هذا فنقول: المشهور أن هذه المراغمة إنما حصلت بسبب أنهم فارقوا وخرجوا عن ديارهم.
وعندي فيه وجه آخر، وهو أن يكون المعنى: ومن يهاجر في سبيل الله إلى بلد آخر يجد في أرض ذلك البلد من الخير والنعمة ما يكون سبباً لرغم أنف أعدائه الذين كانوا معه في بلدته الأصلية وذلك لأن من فارق وذهب إلى بلدة أجنبية فإذا استقام أمره في تلك البلدة الأجنبية، ووصل ذلك الخبر إلى أهل بلدته خجلوا من سوء معاملتهم معه، ورغمت أنوفهم بسبب ذلك، وحمل اللفظ على هذا أقرب من حمله على ما قالوه، والله أعلم. والحاصل كأنه قيل: يا أيها الإنسان إنك كنت إنما تكره الهجرة عن وطنك خوفاً من أن تقع في المشقة والمحنة في السفر، فلا تخف فإن الله تعالى يعطيك من النعم الجليلة والمراتب العظيمة في مهاجرتك ما يصير سبباً لرغم أنوف أعدائك، ويكون سبباً لسعة عيشك، وإنما قدم في الآية ذكر رغم الأعداء على ذكر سعة العيش لأن ابتهاج الإنسان الذي يهاجر عن أهله وبلده بسبب شدة ظلمهم عليه بدولته من حيث إنها تصير سبباً لرغم أنوف الأعداء، أشد من ابتهاجه بتلك الدولة من حيث إنها صارت سبباً لسعة العيش عليه.
وأما المانع الثاني من الإقدام على المهاجرة فهو أن الإنسان يقول: إن خرجت عن بلدي في طلب هذا الغرض، فربما وصلت إليه وربما لم أصل إليه، فالأولى أن لا أضيع الرفاهية الحاضرة بسبب طلب شيء ربما أصل إليه، وربما لا أصل إليه، فأجاب الله تعالى عنه بقوله: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مهاجرا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله} والمعنى ظاهر، وفي الآية مسائل.
المسألة الأولى: قال بعضهم: المراد من قصد طاعة الله ثم عجز عن إتمامها، كتب الله له ثواب تمام تلك الطاعة: كالمريض يعجز عما كان يفعله في حال صحته من الطاعة، فيكتب له ثواب ذلك العمل هكذا روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: ثبت له أجر قصده وأجر القدر الذي أتى به من ذلك العمل، وأما أجر تمام العمل فذلك محال، واعلم أن القول الأول أولى لأنه تعالى إنما ذكر هذه الآية هاهنا في معرض الترغيب في الجهاد، وهو أن من خرج إلى السفر لأجل الرغبة في الهجرة، فقد وجد ثواب الهجرة، ومعلوم أن الترغيب إنما يحصل بهذا المعنى، فأما القول بأن معنى الآية هو أن يصل إليه ثواب ذلك القدر من العمل، فلا يصلح مرغباً، لأنه قد عرف أن كل من أتى بعمل فإنه يجد الثواب المرتب على ذلك القدر من العمل، ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام:
وإنما لكل امرئ ما نوى وأيضاً ما روي في قصة جندب بن ضمرة، أنه لما قرب موته أخذ يصفق بيمينه على شماله، ويقول: اللّهم هذه لك، وهذه لرسولك أبايعك على ما بايعك عليه رسولك، ثم مات فبلغ خبره أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لو توفي بالمدينة لكان خيراً له، فنزلت هذه الآية.
المسألة الثانية: قالت المعتزلة: هذه الآية تدل على أن العمل يوجب الثواب على الله، لأنه تعالى قال: {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله} وذلك يدل على قولنا من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ذكر لفظ الوقوع، وحقيقة الوجوب هي الوقوع والسقوط، قال تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 26] أي وقعت وسقطت.
وثانيها: أنه ذكر بلفظ الأجر، والأجر عبارة عن المنفعة المستحقة، فأما الذي لا يكون مستحقاً فذاك لا يسمى أجراً بل هبة.
وثالثها: قوله: {عَلَى الله} وكلمة {على} للوجوب، قال تعالى: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} [آل عمران: 97] والجواب: أننا لا ننازع في الوجوب، لكن بحكم الوعد والعلم والتفضل والكرم، لا بحكم الاستحقاق الذي لو لم يفعل لخرج عن الإلهية، وقد ذكرنا دلائله فيما تقدم.
المسألة الثالثة: استدل قوم بهذه الآية على أن الغازي إذا مات في الطريق وجب سهمه من الغنيمة، كما وجب أجره.
وهذا ضعيف، لأن لفظ الآية مخصوص بالأجر، وأيضاً فاستحقاق السهم من الغنيمة متعلق بحيازتها، إذ لا تكون غنيمة إلا بعد حيازتها، قال تعالى: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَيء} [الأنفال: 41] والله أعلم.
ثم قال تعالى: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} أي يغفر ما كان منه من القعود إلى أن يخرج، ويرحمه بإكمال أجر المجاهدة.


{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)}
اعلم أن أحد الأمور التي يحتاج المجاهد إليها معرفة كيفية أداء الصلاة في زمان الخوف، والاشتغال بمحاربة العدو؛ فلهذا المعنى ذكره الله تعالى في هذه الآية، وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى: قال يالواحدي: يقال قصر فلان صلاته وأقصرها وقصرها، كل ذلك جائز وقرأ ابن عباس: تقصروا من أقصر، وقرأ الزهري: من قصر، وهذا دليل على اللغات الثلاث.
المسألة الثانية: اعلم أن لفظ القصر مشعر بالتخفيف، لأنه ليس صريحاً في أن المراد هو القصر في كمية الركعات وعددها أو في كيفية أدائها، فلا جرم حصل في الآية قولان: الأول: أن المراد منه صلاة المسافر، وهو أن كل صلاة تكون في الحضر أربع ركعات، فإنها تصير في السفر ركعتين، فعلى هذا القصر إنما يدخل في صلاة الظهر والعصر والعشاء، أما المغرب والصبح، فلا يدخل فيهما القصر.
الثاني: أنه ليس المراد بهذه الآية صلاة السفر، بل صلاة الخوف، وهو قول ابن عباس وجابر بن عبدالله وجماعة، قال ابن عباس: فرض الله صلاة الحضر أربعاً، وصلاة السفر ركعتين، وصلاة الخوف ركعة على لسان نبيّكم محمد صلى الله عليه وسلم، فهذان القولان متفرعان على ما إذا قلنا: المراد من القصر تقليل الركعات.
القول الثاني: أن المراد من القصر إدخال التخفيف في كيفية أداء الركعات، وهو أن يكتفي في الصلاة بالإيماء والإشارة بدل الركوع والسجود، وأن يجوز المشي في الصلاة، وأن تجوز الصلاة عند تلطخ الثوب بالدم، وذلك هو الصلاة التي يؤتى بها حال شدة التحام القتال، وهذا القول يروى عن ابن عباس وطاوس.
واحتج هؤلاء على صحة هذا القول بأن خوف الفتنة من العدو لا يزول فيما يؤتى بركعتين على إتمام أوصافهما، وإنما ذلك فيما يشتد فيه الخوف في حال التحام القتال، وهذا ضعيف، لأنه يمكن أن يقال: إن صلاة المسافر إذا كانت قليلة الركعات، فيمكنه أن يأتي بها على وجه لا يعلم خصمه بكونه مصلياً، أما إذا كثرت الركعات طالت المدة ولا يمكنه أن يأتي بها على حين غفلة من العدو.
واعلم أن وجه الاحتمال ما ذكرنا، وهو أن القصر مشعر بالتخفيف، والتخفيف كما يحصل بحذف بعض الركعات فكذلك يحصل بأن يجعل الإيماء والإشارة قائماً مقام الركوع والسجود.
واعلم أن حمل لفظ القصر على إسقاط بعض الركعات أولى، ويدل عليه وجوه:
الأول: ما روي عن يعلى بن أمية أنه قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، كيف نقصر وقد أمنا، وقد قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ} فقال: عجبت مما عجبت منه، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» وهذا يدل على القصر المذكور في الآية هو القصر في عدد الركعات، وأن ذلك كان مفهوماً عندهم من معنى الآية.
الثاني: أن القصر عبارة عن أن يؤتي ببعض الشيء، ويقتصر عليه، فأما أن يؤتى بشيء آخر، فذلك لا يسمى قصراً، ولا اقتصاراً، ومعلوم أن إقامة الإيماء مقام الركوع والسجود، وتجويز المشي في الصلاة وتجويز الصلاة مع الثوب الملطخ بالدم، ليس شيء من ذلك قصراً، بل كلها إثبات لأحكام جديدة وإقامة لشيء مقام شيء آخر، فكان تفسير القصر بما ذكرنا أولى.
الثالث: أن {مِنْ} في قوله: {مِنَ الصلاة} للتبعيض، وذلك يوجب جواز الاقتصار على بعض الصلاة، فثبت بهذه الوجوه أن تفسير القصر بإسقاط بعض الركعات أولى من تفسيره بما ذكروه من الإيماء والإشارة.
الرابع: أن لفظ القصر كان مخصوصاً في عرفهم بنقص عدد الركعات، ولهذا المعنى لما صلّى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ركعتين، قال ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ الخامس: أن القصر بمعنى تغير الصلاة مذكور في الآية التي بعد هذه الآية، فوجب أن يكون المراد من هذه الآية بيان القصر بمعنى الركعات، لئلا يلزم التكرار، والله أعلم.
المسألة الثالثة: قال الشافعي رحمه الله: القصر رخصة، فإن شاء المكلف أتم، وإن شاء اكتفى على القصر، وقال أبو حنيفة: القصر واجب، فإن صلّى المسافر أربعاً ولم يقعد في الثنتين فسدت صلاته، وإن قعد بينهما مقدار التشهد تمت صلاته، واحتج الشافعي رحمه الله على قوله بوجوه:
الأول: أن ظاهر قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة} مشعر بعدم الوجوب، فإنه لا يقال {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} في أداء الصلاة الواجبة، بل هذا اللفظ إنما يذكر في رفع التكليف بذلك الشيء، فأما إيجابه على التعيين فهذا اللفظ غير مستعمل فيه، أما أبو بكر الرازي فأجاب عنه بأن المراد من القصر في هذه الآية لا تقليل الركعات، بل تخفيف الأعمال.
وأعلم أنا بيّنا بالدليل أنه لا يجوز حمل الآية على ما ذكره، فسقط هذا العذر. وذكر صاحب الكشاف وجهاً آخر فيه، فقال: إنهم لما ألفوا الاتمام، فربما كان يخطر ببالهم أن عليهم نقصاناً في القصر، فنفى عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر، فيقال له: هذا الاحتمال إنما يخطر ببالهم إذا قال الشارع لهم: رخصت لكم في هذا القصر، أما إذا قال: أوجبت عليكم هذا القصر، وحرمت عليكم الاتمام، وجلعته مفسداً لصلاتكم، فهذا الاحتمال مما لا يخطر ببال عاقل أصلاً، فلا يكون هذا الكلام لائقاً به.
الحجة الثانية: ما روي أن عائشة رضي الله عنها قالت: اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فلما قدمت مكة قلت يا رسول الله: بأبي أنت وأمي، قصرت وأتممت وصمت وأفطرت، فقال: أحسنت يا عائشة وما عاب علي، وكان عثمان يتم ويقصر، وما ظهر إنكار من الصحابة عليه.
الحجة الثالثة: أن جميع رخص السفر شرعت على سبيل التجويز، لا على سبيل التعيين جزماً فكذا هاهنا، واحتجوا بالأحاديث منها ما روى عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال فيه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته فظاهر الأمر للوجوب، وعن أبي عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسافراً صلّى ركعتين.
والجواب: أن هذه الأحاديث تدل على كون القصر مشروعاً جائزاً، إلا أن الكلام في أنه هل يجوز غيره؟ ولما دل لفظ القرآن على جواز غيره كان القول به أولى، والله أعلم.
المسألة الرابعة: قال بعضهم: صلاة السفر ركعتان، تمام غير قصر، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر.
وأعلم أن لفظ الآية يبطل هذا، وذلك لأنا بينا أن المراد من القصر المذكور في الآية تخفيف الركعات، ولو كان الأمر ما ذكروه لما كان هذا قصراً في صلاة السفر، بل كان ذلك زيادة في صلاة الحضر، والله أعلم.
المسألة الخامسة: زعم داود وأهل الظاهر أن قليل السفر وكثيره سواء في جواز الرخصة وزعم جمهور الفقهاء أن السفر ما لم يقدر بمقدار مخصوص لم يحصل فيه الرخصة. احتج أهل الظاهر بالآية فقالوا: إن قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة} جملة مركبة من شرط، وجزاء الشرط هو الضرب في الأرض، والجزاء هو جواز القصر، وإذا حصل الشرط وجب أن يترتب عليه الجزاء سواء كان الشرط الذي هو السفر طويلاً أو قصيراً، أقصى ما في الباب أن يقال: فهذا يقتضي حصول الرخصة عند انتقال الإنسان من محلة إلى محلة، ومن دار إلى دار، إلا أنّا نقول:
الجواب عنه من وجهين:
الأول: أن الانتقال من محلة إلى محلة إن لم يسم بأنه ضرب في الأرض، فقد زال الاشكال، وإن سمي بذلك فنقول: أجمع المسلمون على أنه غير معتبر، فهذا تخصيص تطرق إلى هذا النص بدلالة الإجماع، والعام بعد التخصيص حجة، فوجب أن يبقى النص معتبراً في السفر، سواء كان قليلاً أو كثيراً.
والثاني: أن قوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض} يدل على أنه تعالى جعل الضرب في الأرض شرطاً لحصول هذه الرخصة، فلو كان الضرب في الأرض اسماً لمطلق الانتقال لكان ذلك حاصلاً دائماً، لأن الإنسان لا ينفك طول عمره من الانتقال من الدار إلى المسجد، ومن المسجد إلى السوق، وإذا كان حاصلاً دائماً امتنع جعله شرطاً لثبوت هذا الحكم، فلما جعل الله الضرب في الأرض شرطاً لثبوت هذا الحكم علمنا أنه مغاير لمطلق الانتقال وذلك هو الذي يسمى سفراً ومعلوم أن اسم السفر واقع على القريب وعلى البعيد، فعلمنا دلالة الآية على حصول الرخصة في مطلق السفر، أما الفقهاء فقالوا: أجمع السلف على أن أقل السفر مقدر، قالوا: والذي يدل عليه أنه حصل في المسألة روايات:
فالرواية الأولي: ما روي عن عمر أنه قال: يقصر في يوم تام، وبه قال الزهري والأوزاعي.
الثانية: قال ابن عباس: إذا زاد على يوم وليلة قصر.
والثالثة: قال أنس بن مالك: المعتبر خمس فراسخ.
الرابعة: قال الحسن: مسيرة ليلتين.
الخامسة: قال الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير: من الكوفة إلى المداين، وهي مسيرة ثلاثة أيام، وهو قول أبي حنيفة.
وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه إذا سافر إلى موضع يكون مسيرة يومين وأكثر اليوم الثالث جاز القصر، وهكذا رواه ابن سماعة عن أبي يوسف ومحمد.
السادسة: قال مالك والشافعي: أربعة برد كل بريد أربعة فراسخ، كل فرسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قدر أميال البادية كل ميل إثنا عشر ألف قدم، وهي أربعة آلاف خطوة، فإن كل ثلاثة أقدام خطوة قال الفقهاء: فاختلاف الناس في هذه الأقوال يدل على انعقاد الإجماع على أن الحكم غير مربوط بمطلق السفر، قال أهل الظاهر: اضطراب الفقهاء في هذه الأقاويل، يدل على أنهم لم يجدوا في المسألة دليلاً قوياً في تقدير المدة، إذ لو حصل في المسألة دليل ظاهر الدلالة لما حصل هذا الاضطراب، وأما سكوت سائر الصحابة عن حكم هذه المسألة فلعله إنما كان لأنهم اعتقدوا أن هذه الآية دالة على ارتباط الحكم بمطلق السفر، فكان هذا الحكم ثابتاً في مطلق السفر بحكم هذه الآية، وإذا كان الحكم مذكوراً في نص القرآن لم يكن بهم حاجة إلى الاجتهاد والاستنباط، فلهذا سكتوا عن هذه المسألة.
وأعلم أن أصحاب أبي حنيفة عولوا في تقدير المدة بثلاثة أيام على قوله عليه الصلاة والسلام يمسح المسافر ثلاثة أيام، وهذا يقتضي أنه إذا لم يحصل المسح ثلاثة أيام أن لا يكون مسافراً، وإذا لم يكن مسافراً لم يحصل الرخص المشروعة في السفر، وأما أصحاب الشافعي رضي الله عنه فإنهم عولوا على ما روى مجاهد وعطاء بن أبي رباح عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد، من مكة إلى عسفان»، قال أهل الظاهر: الكلام عليه من وجوه:
الأول: أنه بناء على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، وهو عندنا غير جائز لوجهين:
الأول: إن القرآن وخبر الواحد مشتركان في دلالة لفظ كل واحد منهما على الحكم، والقرآن مقطوع المتن، والخبر مظنون المتن، فكان القرآن أقوى دلالة من الخبر، فترجيح الضعيف على القوي لا يجوز.
والثاني: أنه روي في الخبر أنه عليه الصلاة والسلام قال: إذا روي حديث عني فاعرضوه على كتاب الله تعالى فإن وافقه فاقبلوه وإن خالفه فردوه دلّ هذا الخبر على أن كل خبر ورد على مخالفة كتاب الله تعالى فهو مردود، فهذا الخبر لما ورد على مخالفة عموم الكتاب وجب أن يكون مردوداً.
الوجه الثاني: في دفع هذه الأخبار، وهو أنها أخبار آحاد وردت في واقعة تعم الحاجة إلى معرفة حكمها فوجب كونها مردودة، إنما قلنا: إن الحاجة إليها عامة لأن أكثر الصحابة كانوا في أكثر الأوقات في السفر وفي الغزو، فلما كانت رخص السفر مخصوصة بسفر مقدر، كانت الحاجة إلى مقدار السفر المفيد للرخص حاجة عامة في حق المكلفين، ولو كان الأمر كذلك لعرفوها ولنقلوها نقلاً متواتراً، لا سيما وهو على خلاف ظاهر القرآن، فلما لم يكن الأمر كذلك علمنا أن هذه أخبار ضعيفة مردودة، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يجوز ترك ظاهر القرآن بسببها.
الثالث: أن دلائل الشافعية ودلائل الحنفية صارت متقابلة متدافعة، وإذا تعارضت تساقطت، فوجب الرجوع إلى ظاهر القرآن، هذا تمام الكلام في هذا الموضع. والذي عندي في هذا الباب أن يقال: إن كلمة (إذا) وكلمة (إن) لا يفيدان إلا كون الشرط مستعقباً لذلك الجزاء في جميع الأوقات فهذا غير لازم، بدليل أنه إذا قال لامرأته: إن دخلت الدار، أو إذا دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت مرة وقع الطلاق، وإذا دخلت الدار ثانياً لا يقع وهذا يدل على أن كلمة (إذا) وكلمة (إن) لا يفيدان العموم البتة، وإذا ثبت هذا سقط استدلال أهل الظاهر بالآية، فإن الآية لا تفيد إلا أن الضرب في الأرض يستعقب مرة واحدة هذه الرخص وعندنا الأمر كذلك فيما إذا كان السفر طويلاً، فأما السفر القصير فإنما يدخل تحت الآية لو قلنا أن كلمة (إذا) للعموم، ولما ثبت أنه ليس الأمر كذلك فقط سقط هذا الاستدلال، وإذا ثبت هذا ظهر أن الدلائل التي تمسك بها المجتهدون بمقدار معين ليست واقعة على خلاف ظاهر القرآن فكانت مقبولة صحيحة، والله أعلم.
المسألة السادسة: زعم داود وأهل الظاهر أن جواز القصر مخصوص بحال الخوف.
واحتجوا بأنه تعالى أثبت هذا الحكم مشروطاً بالخوف، وهو قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ} والمشروط بالشيء عدم عند عدم ذلك الشرط، فوجب أن لا يحصل جواز القصر عند الأمن.
قالوا: ولا يجوز رفع هذا الشرط بخبر من أخبار الآحاد، لأنه يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد وإنه لا يجوز، ولقد صعب هذا الكلام على قوله ذكروا فيه وجوهاً متكلفة في الآية ليتخلصوا عن هذا الكلام. وعندي أنه ليس في هذا غموض، وذلك لأنا بينا في تفسير قوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] أن كلمة (إن) وكلمة (إذا) يفيدان أن عند حصول الشرط يحصل المشروط، ولا يفيدان أن عند عدم الشرط يلزم عدم المشروط، واستدللنا على صحة هذا الكلام بآيات كثيرة، وإذا ثبت هذا فنقول: قوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ} يقتضي أن عند حصول الخوف تحصل الرخصة، ويقتضي أن عند عدم الخوف لا تحصل الرخصة، وإذا كان كذلك كانت الآية ساكتة عن حال الأمن بالنفي وبالإثبات، وإثبات الرخصة حال الأمن بخبر الواحد يكون إثباتاً لحكم سكت عنه القرآن بخبر الواحد، وذلك غير ممتنع، إنما الممتنع إثبات الحكم بخبر الواحد على خلاف ما دلّ عليه القرآن، ونحن لا نقول به.
فإن قيل: فعلى هذا لما كان هذا الحكم ثابتاً حال الأمن وحال الخوف، فما الفائدة في تقييده بحال الخوف؟
قلنا: إن الآية نزلت في غالب أسفار النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثرها لم يخل عن خوف العدو، فذكر الله هذا الشرط من حيث أنه هو الأغلب في الوقوع، ومن الناس من أجاب عنه بأن القصر المذكور في الآية المراد منه الاكتفاء بالإيماء والإشارة بدلاً عن الركوع والسجود، وذلك هو الصلاة حال شدة الخوف، ولا شك أن هذه الصلاة مخصوصة بحال الخوف، فإن وقت الأمن لا يجوز الإتيان بهذه الصلاة، ولا تكون محرمة ولا صحيحة، والله أعلم. ثم يقال لأهل الظاهر: إن ظاهر هذه الآية يقتضي أن لا يجوز القصر إلا عند حصول الخوف الحاصل من فتنة الكفار، وأما لو حصل الخوف بسبب آخر وجب أن لا يجوز القصر، فإن التزموا ذلك سلموا من الطعن، إلا أنه بعيد، وإن لم يلتزموه توجه النقص عليهم، لأنه تعالى قال: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ} وذلك يقتضي أن الشرط هو هذا الخوف المخصوص، ولهم أن يقولوا: إما أن يقال: حصل إجماع الصحابة والأمة على أن مطلق الخوف كاف، أو لم يحصل الإجماع، فإن حصل الإجماع فنقول: خالفنا ظاهر القرآن بدلالة الإجماع، وهو دليل قاطع فلم تجز مخالفته بدليل ظني، وإن لم يحصل الإجماع فقد زال السؤال، لأنا نلتزم أنه لا يجوز القصر إلا مع هذا الخوف المخصوص، والله أعلم.
أما قوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ} ففي تفسير هذه الفتنة قولان: الأول: خفتم أن يفتنوكم عن إتمام الركوع والسجود في جميعها.
الثاني: إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا بعداوتهم، والحاصل أن كل محنة وبلية وشدة فهي فتنة.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً} والمعنى أن العداوة الحاصلة بينكم وبين الكافرين قديمة، والآن قد أظهرتم خلافهم في الدين وازدادت عداوتهم، وبسبب شدة العداوة أقدموا على محاربتكم وقصد إتلافكم إن قدروا، فإن طالت صلاتكم فربما وجدوا الفرصة في قتلكم، فعلى هذا رخصت لكم في قصر الصلاة، وإنما قال: {عَدُوّا} ولم يقل أعداء، لأن العدو يستوي فيه الواحد والجمع، قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ العالمين} [الشعراء: 77].

24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31